اعتذرتْ جريدة "الجزيرة" عن نشر هذا المقال في عدد السبت القادم من ثقافيتها.. وبما أنه لم يجز، فلا أعتقد أن المقالات القادمة عن ماركس ونيتشه وغيرهما ستجاز من باب أولى، لعلمي بما فيها.
كنتُ مخطئًا حين ظننتُ سقف حرية التعبير في صحافتنا ارتفع، ومخطئا أيضًا حين ظننتُ أن ورودَ بعض الأفكار في سياق التعريف بالفلاسفة يعفيها من المنع.
عمومًا: دونكم المقال الممنوع، وأعتذر عن إكمال السلسلة في صحافتنا المحلية لصعوبة ذلك، وقد أنشر بقية المقالات وشبيهاتها لاحقاً في أماكن أخرى..
وتجدون أسفل المقال روابط المقالات السابقة من هذه السلسلة.
رحلة مع الفلاسفة (6)
عن جون لوك والليبرالية
والملكية الدستورية
ألّفَ جون لوك كتابه الشهير
"مقالتان عن الحكومة" بلغة سهلة واضحة، ويُعدُّ هذا الكتاب بداية الفلسفة
السياسية لعصر النهضة، حيث وضّح لوك فيه أن الشعب هو الذي يجب أن يمنح السلطة للحكام،
حسب قواعد محددة؛ ولذلك لا يستطيع الحكام عمل ما يريدون بسلطتهم، بل ينبغي إعادتها
إلى الشعب مرة أخرى إذا استلزم الأمر أو اختلت تلك القواعد.
لقد واجه لوك النظام الإقطاعي بكلِّ
قوة وحزم، وكذلك فعل مع النظام الملكي المستبد، فقد ألقى بفتيل الأزمة على هذه الأنظمة
الطاغية، من خلال نظرياته عن سلطة الشعب، والفصل بين السلطات، والحق الطبيعي، وحق الملكية
الخاصة، وحق المواطن في المقاومة. لقد دفعتْ نظرياته إلى التطوّر الذي أدّى إلى الدول
الدستورية الديمقراطية الحديثة.
لقد صاغ هذا الأب الفلسفي لحقوق الإنسان
والحقوق المدنية والليبرالية كما يوصف.. لقد صاغ في كتابه "مقالتان عن الحكومة"
قوانين الدولة الدستورية الحديثة، وهي القوانين التي تأثر بها كثير من الأفراد والمجتمعات.
عاش بعض الفلاسفة حياتهم في الظل، وعاش
لوك على العكس، فقد كان مع الناس دائمًا في قلب المجتمع، من بداياته، وكتب عدّة مقالات
في الفلسفة السياسية في بدايات سبعينات القرن السابع عشر، تدور حول رغبته في تكوين
دولة قوية، وتنطلق من أن الحاكم يستمد شرعيته من إرادة الناس، لا من أية إرادة
أخرى.
ورغم أن لوك درس الطب، وحصل على
شهادات تخوله العمل كطبيب، إلا أنه لم يتفرغ للطب، ولم يتخذه مهنة رئيسية، بل مال
أكثر إلى العلوم الطبيعية، والفلسفة، وخاصة الفلسفة السياسية، حيث درس الفلسفة في
جامعة أكسفورد، وعُيّنَ مدرسًا للفلسفة اليونانية في نفس الجامعة.
وبسبب الظروف السياسية الصعبة في إنجلترا
هاجر إلى هولندا، التي كانت أكثر حرية في ذلك التاريخ؛ ولكنه عاد إلى إنجلترا بعد
نجاح ثورة الإنجليز عام 1688م، فأخذ مكانه الطبيعي الكبير بينهم، باعتباره فيلسوف
الثورة.
كانت نظرياته تؤكد على أن الوضع البدائي
هو وضع الفوضى والهمجية وسوء النظام وغياب القوانين، وعلى أن هذا الوضع لا يمكن القضاء
عليه إلا بأن يعطي الناس السلطة المطلقة والحقوق الكاملة للحاكم القادر على التقدم
والسير بهم نحو دولة الدستور والعدالة والحرية والقانون.
لقد كان في بداياته يقف مع الملكية
المستبدة، حتى تعرف على أنتوني كوبر، أحد السياسيين البارزين في الدولة، الذي كان من
أنصار البرلمان لا الملكية، فقرب لوك وحماه، وجعله خليلاً له، فتحوّل لوك من مناصر
للملكية إلى مفكر حر مستقل مناصر للبرلمان، ومنظر للحريّات والعدل والمساواة وحقوق
الإنسان، ومن عضو هيئة تدريس في الجامعة إلى رجل دنيا ومجتمع، وفيلسوف كبير.
في صياغته الأولى لكتابه "مقالتان
عن الحكومة" برَّرَ جون الثورة، وقدّم الحجج الفلسفية الرائعة المفحمة، التي تؤكد
وتحث على إسقاط الملك غير الشرعي في عصره، وينطبق غالبها -في نظري- على أيِّ ملكٍ
فاسدٍ غير شرعي، وعلى كل مملكة مستبدة طاغية غير شرعية، في أيِّ مجتمع وزمن.
وتم التخطيط فعلاً لهذا الانقلاب، ولكن
المخطط انكشف، فهرب أصحاب الفكرة والمخططون لها وكثير من مؤيديها، ومنهم لوك، الذي
هرب إلى هولندا في 1683م، وضاع بعض أجزاء كتابه أثناء الهجرة، ولكنه نشر كثيرًا منه.
في مقدمة الكتاب، يربط لوك كتابه بالثورة،
بمدخل جميل، يعطي القارئ الفهم الأولي لأهداف الكتاب ومعاناة مؤلفه.. يقول لوك:
"لديك أيها القارئ بداية ونهاية مقالة عن الحكومة. إنه لا فائدة من أن أحكي لك
ما حدث للأوراق، التي كان ينبغي أن تملأ وسط المقالة ما بين البداية والنهاية، والتي
كانت أكثر من كلِّ ما بقي من المقالة. أتمنى أن يكون الباقي منها كافيًا لتثبيت عرش
منقذنا العظيم، عرش ملكنا الحالي (وليم)، ولإثبات مشروعية مطلبه في موافقة الشعب".
لوك بكتابه هذا لا يدعو إلى الثورة
فحسب، بل يبرر ويثبت ويدلل على وجوب قيام الملكية الدستورية.
يُعتبر كتابه من أبسط الأعمال الفلسفية
الهامة، فهو واضح جدًا، وسلس الأسلوب، لا يجد عامة الناس أية صعوبة في استيعاب النقاط
السياسية الرائعة الواردة فيه، ناهيك عن النخب والطبقات المثقفة.
يظهر من عنوان الكتاب أنه يحتوي على
مقالتين سياسيتين، المقالة الأولى: تناقش بعض المبادئ التي يراها جون خاطئة.. والمقالة
الثانية: تتحدث عن الأهداف الحقيقية لحكم الدولة من وجهة نظره. يعرضها ويشرحها للمتلقي
بأسلوب سهل ممتنع.
لقد نقض ودحض في هذا الكتاب بالحجج
والبراهين كل ما أورده "فيلمر" في كتابه الشهير "الأبوّة" من نظريات
تبرر الملكية المستبدة المقدسة، وأبرزها زعم فيلمر أن العبودية بين البشر ضرورية، بناءً
على نظرية عدم التكافؤ الطبيعي، وأن بعض البشر ولدوا سادة وبعضهم ولدوا عبيدًا، ويُرجع
كل ذلك إلى نظام الطبيعة!.
لقد رد جون لوك على فيلمر في النقاط
السابقة وغيرها من أمثالها، بردود جميلة إنسانية راقية، ومن ذلك قوله الرائع مثلا:
"العبودية وضع محتقر يخزي الإنسان، ومخالف للأخلاق النبيلة وشجاعة أمتنا، لدرجةٍ
يصعب معها فهم أن إنجليزيا أهلا للشرف يستطيع أن يدافع عنها".
يعترض لوك بشدة على تشبيه "فيلمر"
الملك برب الأسرة؛ لأنه يرى الفرق كبير بينهما، فواجبات الملك مختلفة عن واجبات الأب،
فرب الأسرة مسؤول عن تربية الأبناء وتأمين الطعام والشراب لهم، أما الملك فواجباته
أبعد بكثير، حيث إنه مطالب بتأمين الحماية الكاملة اللامحدودة للحقوق الأساسية كالممتلكات
والحياة والحرية وتطبيق القانون والعدالة والمساواة، وهذا منبثق من الحقوق الأساسية
الإنسانية التي رسخها لوك في كتابه، وهي: الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في
الحيازة والملكية.
لا يرى لوك للملك الحق في حلِّ البرلمان
تعسفيًا، أو في التصرف بخزينة الدولة وأموال الضرائب دون إذن البرلمان.. كما أوجب لوك
على السلطة التشريعية تعيين قضاة مستقلين تماما، وطالب باستقلال السلطة التشريعية في
مواجهة السلطة التنفيذية، ومن هنا اعتبره الكثيرون من رواد فكرة (فصل السلطات الثلاث)
التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وبناء على كلِّ ما سبق، يصل لوك إلى
نتيجة كبيرة، مفادها أن الملكية لم تعد ممكنة أبدًا، إلا في صورة "الملكية الدستورية"
فقط.
لقد كان هذا الكتاب أيضًا مناصرًا للشعب
في موضوع "الثورة العنيفة"، فلوك يرى أنه من حق المواطنين الذين يُحرمون
من حقوقهم الأساسية أن يثوروا بالقوة للتخلص من حاكم غير شرعيّ، إذا لم يكن التخلص
منه بالطرق السلمية ممكنًا.!
والخلاصة هي أن هذا الكتاب القيّم،
قد رفع مستوى الوعي الإنساني بحقوق المواطن الحر، بطريقة سهلة واضحة، قلّما نجد لها
مثيلا في كتب الفلسفة السياسية.
نأتي الآن إلى فلسفة لوك العامة،
ولن نستطيع بالطبع الإحاطة بكلِّ شيء، ولكننا سنركز –كعادتي في هذه السلاسل
الفلسفية المبسطة- على أبرز ما يميز فلسفته.
يعترض لوك على الزعم أو القول بأن المعارف أو أن كثيرًا منها يعود إلى
"الفطرة"، ويصرُّ دائمًا على أن المعرفة تُنال وتؤخذ من التجارب
والخبرات الحسيّة.. ومن هذا وغيره صنفوه أو اعتبروه فيلسوفًا من أبرز فلاسفة
النزعة الحسيّة التجريبية في العصر الحديث، فالإحساس فقط هو المصدر الوحيد الأكيد
للمعرفة عنده، حيث أكد على أن الإنسان الذي يفقد حاسة من حواسه، يفقد المعاني
المرتبطة بها، وبالتالي يفقد من المعرفة أو القدرة على تحصيل المعرفة بقدر الخلل
أو العطب الذي يصيب حواسه!.
كان لوك يتبنى أن الوعي بالأشياء أو الأحداث لا يتكوّن إلا بعد أن ندركها بحواسنا، فوعي الإنسان يكون في بدايته كصفحة بيضاء، إلى أن يدرك الأشياء بحواسه، وهي ثمرة تجاربه، فيبدأ تشكل الوعي الخاص بكل فرد، ويتصاعد مع كثرة التجارب.
يُفرّق جون بين نوعين من الأفكار،
فإدراكنا للعالم ببعض الحواس يسميه أفكارًا حسية بسيطة. أما "الأفكار المنعكسة"، الأهم عنده، فهي إخضاع الأفكار الحسية
لمجادلات وتحليلات، ومن هنا وصل إلى إلى نتيجة مفادها أن تكرار الانطباع البسيط يولد
رؤية تركيبية.
ويعتقد لوك أن العقل البشري يحمل في
ذاته فكرة الله، وأن فكرة وجود الله ليست فكرة إيمان، بل فكرة عقل ملازم للإنسان!.
والزبدة في فلسفة جون لوك، هي أنها
فلسفة تحليلية نقدية للعقل الإنساني، تقوم على "الحرية" كركيزة أساسية،
وهي -أي فلسفته- أوضح وخير ممثل لتيار الفلاسفة الواقعيين التجريبيين عامة،
والإنجليز منهم على وجه الخصوص.
ومما يُحسب للوك، اهتمامه بالطفل
وتربيته اهتمامًا فائقاً، فقد حذر بقوة من القسوة والتخويف في العملية التربوية،
وقرر أن الأطفال لا يمكن أن يستجيبوا ويطيعوا الكبار طاعة حقيقية كاملة مفيدة
إيجابية، باستخدام العصا والضرب والرعب، فالقسوة عنده هي المدمر لروح الطفل
والمحطم لعقله.. لقد حثَّ لوك الآباء والمربين على إعداد الطفل لمواجهة الحياة، من
خلال الرفق واللين والعمل على البناء الشامل لشخصيته، والعناية بجسده من خلال
التربية الرياضية؛ لأنها تعلمه المثابرة، وتجعله قادرًا على تحمل الصعاب.. كما
حثهم على تنمية مهارات الطفل العقلية والإبداعية، وتجنب أسلوب "التلقين"
وحشو العقل بالمعلومات الجافة.
ونختم بأن جون لوك من الآباء الروحيين الكبار لليبرالية
عامة، وخاصة الليبرالية السياسية، وقد ظهر كثير من ذلك في الأسطر السابقة من هذه المقالة..
والزبدة في هذا أو الملخص الأخير، هو أن جون اهتم كثيرًا بالحرية والمساواة والعدالة
بين الناس في المجتمع من كلِّ الوجوه، ودعا بقوة إلى (القوانين) فسيادة القانون مطلبٌ
ملحٌّ عنده دائمًا، لنجاح المجتمع واستقرار العقد الاجتماعي.. فهو يرى أن غياب القانون
أو ضعف سيادته يُعيد المجتمع أو يقربه من الوضع البدائي الهمجي.. كما سلّط لوك الضوء
على ضرورة المساواة بين الجنسين، فقرر أن وضع المرأة كتابع للرجل ليس من معطيات الطبيعة،
بل خطأ صنعه وضخّمه البشر..
ونلتقي مع "ماركس" في المقالة القادمة إن شاءت الأقدار..
المقالات السابقة من سلسلة الفلاسفة:
مقدمة السلسلة، وفيها توطئة هامة
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/13092014/fadaat20.htm
عن «كانط» ونقد العقل المحض/الخالص
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/29112014/fadaat7.htm
عن ديكارت وكتابه: مقال في المنهج (ثلاثة مقالات)
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/08112014/fadaat23.htm
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/15112014/fadaat7.htm
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/22112014/fadaat8.htm
الفلسفة السياسية في كتاب «الأمير» لنيقولا مكيافيللي
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/01112014/fadaat3.htm
عن أفلاطون وجمهوريته وإيمانه بالخالق (ثلاثة مقالات)
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/20092014/fadaat24.htm
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/18102014/fadaat8.htm
http://www.al-jazirah.com/culture/2014/25102014/fadaat25.htm
أما سلسلة "رحلة مع الفلسفة"
فجميع مقالاتها على هذا الرابط:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق