الجمعة

التغيُّرات الفكريَّة في المجتمع السعودي

يعيش المجتمع السعودي في هذه المرحلة - من وجهة نظري - مرحلة مخاض كبيرة، تسبق ولادةً جديدةً، لوجهٍ حديثٍ، تشترك في رسمِ ملامحه مجموعةٌ من القوى الثقافية المختلفة المرتكزات والاستراتيجيات والأهداف.

كانت "الحداثة" في السابق مصطلحاً لا يتحدّث عنه إلا القلائل، وحُلماً تشتاق إلى تحقيقه وتطبيقه نفوسُ فئة نخبوية معينة من أبناء الوطن الذين تنوَّرت عقولُهم مبكراً؛ فتاقوا إلى معانقتها، وإعتاق مجتمعهم بها من قيود التخلف؛ ليواكب بعد تحريره جماليات العصر، ويلحق بركب التقدّم والتطوّر والنهضة الإنسانية الحديثة والإبداع البشري المتصاعد. 

ولكن المعادلة اختلفت اليوم في ظلِّ هذه الثورة التقنية الشاملة، التي أدارت باختراعاتها ووسائل اتصالاتها الرهيبة (رحى التنوير) والتغيير، في كثير من المجتمعات المنغلقة المظلمة سابقاً.

أصبحت هناك اليوم قوةٌ جديدة حقيقية "مدركة وملموسة" لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، يشعر بها كلُّ متأملٍ منصفٍ لواقعنا، وهي -في نظري- قوة ديناميكية رائعة تسير بالشكل الصحيح في الاتجاه الصحيح، وفي الوقت المناسب، وبتناغمٍ جميلٍ محمودٍ تشترك في تكوين ألحانه أصواتٌ مميزة حرّة، تتكاثر يوماً بعد يوم.. هي قوة أراها قادرة على تقويض الأسس التقليدية القديمة التي ظلَّ الناسُ أسرى لها دون وعي كاملٍ حقيقي بحقيقتها، ومَواطنِ الضعف والخلل والقصورِ فيها، ودون تعمُّق فكريٍّ سليمٍ -غالباً- في دهاليزها الخفية، التي لا تَظْهر إشكالاتُها إلا لمن سَبَرَ أغوارها بتحليلٍ عميقٍ، وتفكيكٍ وتشذيبٍ دقيقين، لتراكيبها المعقدة المتداخلة، بهدوء كامل، وتركيز شديد، وجدّيّة تامة، وطول نفس.

إن هذه القوة التي تحمل لواءها اليوم مجموعةٌ من أبناء وبنات الوطن تخوض معركة فكرية ثقافية حامية الوطيس، مع مجموعات من القوى الأخرى، وأظنُّ أن (العراك الفكري) والتفاعل الإيجابي بين حملة القناعات المتعارضة لا يفسد للود قضية بين أبناء المجتمع الواحد، باستثناء نزرٍ قليل من غير الأسوياء الذين يضعون كل من يخالفهم الرأي في منزلة عدو لدود.

لقد زرعت تلك المجموعة الصامدة الأبيّة في بساتين مجتمعنا أشجاراً جديدة ومتنوعة، وواظبت على سقايتها ورعايتها والاهتمام بتقليمها وتسميد تربتها، حتى بدأت تلك الأشجار تؤتي أكلها بشكل جميل ظاهر، لمسْته بنفسي في السنوات الأخيرة، وأعتقد أن كثيراً من الناس غيري لمسوه أيضاً على أرض واقعنا المجتمعي.

سأضرب لكم مثالاً، فقد كنتُ أتحرج سابقاً من مصادمة بعض المقرّبين منّي ببعض القناعات التي كنت أظن مخطئاً أنها ستزعجهم، بل وصل الحال إلى أبعد من ذلك؛ فقد ظننتُ أني قد أتعرض لردودِ أفعالٍ كبيرة ربما تسبب لي ضرراً أو تعباً أو مشاكل أنا في غنى عنها.

بدأتُ مناقشة هذا بحذر، ومحاورة ذاك بهدوء، حتى اكتشفتُ بعد مراسٍ طويلٍ ومتدرجٍ أن كثيراً منهم يتَّفقُ معي في بعض ما كنت أخشى من الحديث معه حوله، وأن بعضهم يتّفق معي في غالب قناعاتي الخاصة التي ظلّت مستترة وممنوعة من الخروج لسنواتٍ طويلة، بل وجدتُ بعضاً من ذلك البعض يتفق معي تماماً في كل ما أقول وأطرح وأشرح!!

مشكلتنا كتم القناعات دون مبرر مقبول، ومجاملة الآخرين خشيةً من ردود أفعالهم، التي قد لا تكون كما نتوقعها في كثير من الأحيان.

ما أريد أن أصل إليه هو أن ملامح وجه المجتمع السعودي الجديد، الذي سيولد قريباً، لن تكون أبداً كما يريدها ويتمناها التقليديون، بل ستشترك في تكوينه ورسم خطوط جماله مجموعةٌ من التوجهات المتباينة المتفاوتة، في مختلف المجالات، وسيكون لتيارِ المستفيقين من سبات الأوهام والأحلام نصيبُ الأسدِ من خَلْق تلك الملامح.. إننا سنشيّع عند ولادة مجتمعنا الحديث القادم -رغم أنوف الرافضين- جثمانَ مجتمعنا القديم الذي أراه اليوم كرجلٍ مسنٍ عاجزٍ يرقد على فراش موته منتظراً سكراته وساعة الرحيل، بعد أن عاثت الأمراضُ الفتاكة في جسده المنهك المستسلم الضعيف.

فأهلاً أهلاً يا مولودنا الجديد (القادم) المفعم بأملِ الحياة الطبيعية السويّة التي يتعايش على أرضها الجميع، بكل حبٍ واحترام وسلام ووئام وبهجة ونشاط، مهما اختلفت توجهاتهم ومذاهبهم وأعراقهم وأعرافهم ورؤاهم وتقاليدهم، ووداعاً أيها الوصي القديم الذي عاش وسيموت متكبراً متغطرساً مغروراً، مُصراً على احتكار كل شيء، وعلى الزعم بمعرفة كل شيء، والجزم بصحة رأيه في كل شيء، وعلى ممارسة أقسى وأفظع أشكال استعمار عقول أبناء الوطن، وفرض الوصاية عليها.

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

كلام عام يستطيع كل واحد إسباغه على فكره مهما كان منحطا ودنيئا ، تستطيع حتى البغي أن تسبغه على عملها طلبا لحرية فرجها الذي منه مصدر رزقها، لكن أين هي قواعد فكرك الذي من أجله الآن تنافح ، لم أر في مقالك أي تعريف له

غير معرف يقول...

خسئت وامثالك من بني علمان فان اي تطور تقني واي تقدم في المجتمع فانه لن يتخلى عن دينه وعاداته الشريفة التي تنبذ الانحلال والانسياق ورى الحضارة الغربية المنحلة التي تدعوا انت وامثالك من الاذناب الى اتباعها